بقلم: كرم الصَّبَّاغ
مقدمة/ إضاءة
عندما طالعت رواية “الأقدام السَّوداء” للقاصّ و الرّوائي المصريّ”مُحمّد فايز حجازي”، فقد استرعى انتباهي بشدّة مضمون الرّواية، الّذي يتكئ على عِدّة أسس أولها استدعاء التّاريخ، و ثانيها الاشتباك مع الواقع و قضاياه، و ثالثها البعد القوميّ، ذلك الوقود الضمنيّ،الَّذي غَذَّى به الكاتب الحبكة و الصِّراع، و حَرَّكَ به أحداث المرويّة المحوريّة بنسقٍ تصاعديٍّ،مرويّة بئر “حاسي مسعود” بالجزائر الشَّقيق، و استهدافه من قِبَلِ إحدى شركات البترول العالميّة، الَّتي تقف خلفها منظمة “الأقدام السَّوداء”. ولقد لفت انتباهي كذلك طريقة البناء، الَّتي اختارها الكاتب، و اللُّغة الَّتي آثر استخدامها، و مدى ملاءمتها لموضوع الرّواية من عدمه. وفي السّطور القادمة سوف أناقش تلك المحاور بإيجازٍ.
*العنوان و المفتتح كعتبتين أوليين للولوج إلى نص الرّواية:
جاء العنوان المُؤلَّف من كلمتين محفِّزًا للقارئ على المضي قدما في قراءة متن الرّواية للتَّعرف بادئ ذي بدء على مدلول ” الأقدام السوداء” لمن تلك الأقدام؟! و ما الحكاية، التي تختبئ خلف هذا العنوان؟!
إن العنوان يحيلنا من وجهة نظري إلى عِدَّة دلالاتٍ؛فكلمة “الأقدام” تشي بالحركة و كلمة “السَّوداء” تشي بالحزن أو الشَّرِّ كما هو متداول في الموروث الشَّعبيِّ المصريِّ، و العربيّ.و لكن الكاتب تعمَّد أن يثيرَ تساؤلاتنا حينما دوَّن العنوان باللُّغة الفرنسيّة Pieds noirs أسفل العنوان المدوَّن باللُّغة العربيَّة. هنا يقفز السُّؤال إلى الأذهان: لماذا نحا الكاتب هذا المنحى؟! و لماذا اختار اللُّغة الفرنسيَّة بالذات؟!من المُؤكَّد أنَّ القارئ لن يهتدي بسهولةٍ إلى خيطٍ يخرجه من حيرته إلَّا إذا انتقل إلى مفتتح الرّواية الّذي أودعه الكاتب المفتاح الأول لفكِّ شفرة العنوان، فها هو يقول: “الأقـدام السَّــوداء” بدأوا مع بداية الخلق-دجّالون تعاطوا كُلَّ الرَّذائل، وتفرغوا تمامًا لفعل الشّرِّ -ولكنَّ بداياتهم تتجدَّد، وألاعيبهم تتجدَّد في كُلِّ مرَّة، ألاعيب متنوّعة، وعديدة، بل لا حصر لها، لكلِّ زمنٍ بدايةٌجديدةٌ و مختلفةٌ، بآليَّاتٍ جديدةٍ، ومبتكرةٍ، ولكل بدايةٍ أسبابٌ وقصَّةٌ خاصَّةٌ، قصَّةٌ مُركَّبةٌ و معقَّدةٌ” نحن -إذن- أمام حركة منظَّمةٍ،لها جذورٌ تاريخيَّة، و لها تكتيك، و أهدافٌ،نحن على موعدٍ وشيكٍ- إذن- مع حلقةٍ من حلقات الصِّراع بين الخير و الشَّرِّ. و بعد المضي قدما في قراءة مقاطع الرِّواية و بعد اكتشافنا أن الأحداث الرَّئيسة تدور في صحراء الجزائر الشَّقيق، حيث يوجد بئر”حاسي مسعود” سوف نهتدي إلى مدلول العنوان المدون باللُّغة الفرنسيَّة، و سوف ندرك بسهولةٍ أن منظمة “الأقدام السوداء” ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحركات الإمبريالية المحتلَّة، الَّتي تنتهج سياسة نهب ثروات الشُّعوب، و السُّطو على مقدراتها؛حتَّى تضمن الاستمرار في تحقيق أهدافها الخبيثة المرصودة منذ زمنٍ بعيدٍ، وفقَ استراتيجيات بعيدة المدى.
محمد فايز حجازي
*محور استرجاع التاريخ في رواية ” الأقدام السوداء”
هل نحن أمام رواية تاريخيّة؟! بدأ الكاتب روايته من ولاية ” بنسلفانيا” بالولايات المتحدة الأمريكية، و بالتحديد داخل مقر شركة ” سينيكاأويل” بالرجوع إلى عام ١٨٥٩ حيث المقابلة المنتظرة ل” إدوين لورنتيندريك” باثنين من مسئولي الشَّركة، تلك المقابلة، الَّتي أسفرت عن تعيين ” دريك” بالشَّركة، و تحوّله في غضون عِدّة شهورٍ إلى أشهر شخصية في العالم بعد نجاحه في اختراع منصّة الحفر، ذلك الاختراع، الَّذي غيَّر مجرى التاريخ. و ما صاحبه من سعادةٍغامرةٍ انتابت أعضاء منظمة “الأقدام السَّوداء”، الَّتي استغلَّت هذا الاكتشاف للسَّيطرة على مصدر الطَّاقة الأهمّ في العالم، و بالتَّالي السَّيطرة على اقتصاديّات الدُّول.
لم تنته تلك الرّحلة التَّاريخيّة عند هذا القدر، بل انتقل بنا الكاتب في مشاهد متلاحقة إلى قلب أوروبا، و بالتحديد في العام ١٨٥٩حيث اجتماع منظمة ” الأقدام السوداء” كاشفًا عن قوانينهم الخاصّة، و أهدافهم، و إلمامهم بما يدور حولهم في العالم، بل وقوفهم خلف الأحداث الجسام التي تقع في العالم كلاعبين رئيسين في النِّظام العالميّ. وقد أظهر الكاتب مدى تنظيمهم، و صرامتهم، و التزامهم بتحقيق أهدافهم بشتَّى الوسائل و الطُّرق، حتَّى لو كانت من القذارة بمكانٍ.
و سرعان ما انتقل بنا إلى “مصر” المحروسة، و بالتّحديد إلى سرايا ” عابدين” في العام ١٨٨١، حيث الأحداث التي شهدتها بدايات الثَّورة العرابيَّة، و كيف تحايل الخديو ” توفيق” على الأميرالاي ” أحمد عرابي” بإيعازٍ من السَّفير الإنجليزيّ و السَّفير الفرنسيّ، و قد أظهر الكاتب مدى تحكّمهما في مقاليد السُّلطة و مدى سيطرتهما على الخديو الخائن، الأمر الذي انتهى بأن احتلَّت “بريطانيا”مصر بعد هزيمة “عرابي”.
لقد واصل الكاتب رحلته مستعرضًا تاريخ حفر أول بئر بترول في مصر في منطقة ” رأس جمسة” في العام ١٨٨٦، ثم استعرض أحداث احتلال فرنسا للجزائر، و أحداث اكتشاف أول بئر بترول في ولاية “ورقلة”، و بالتحديد في منطقة “حاسي مسعود” على يد حفّار آبار المياه ” مسعود بن روابح” مصادفةً، و كيف اتجهت أنظار المحتلّ الفرنسيّ إلى تلك المنطقة بهدف السيطرة على ثروات و مقدرات الشعب الجزائري. و أنهى الكاتب جولته التاريخيّة بعرض أحداث اكتشاف أول بئر بترول في المملكة العربية السعودية، و هو بئر “الدمام” في العام ١٩٣٨.
نحن -إذن- إزاء روايةٍ اعتمد الكاتب في قسمها الأول على لعبة استدعاء التَّاريخ، و كما أشار الدكتور”حلمي مُحمّد القاعود” في كتابه ” الرِّواية التَّاريخيّة في أدبنا الحديث” إلى أنَّ الرّواية التّاريخيّة العربيّة مرت بثلاثة أطوارٍ: رواية التّعليم، و رواية النّضج، و رواية الاستدعاء. ووفق هذا التقسيم يندرج القسم الأول من رواية ” الأقدام السَّوداء” تحت ما أطلق عليه الدكتور ” حلمي محمدالقاعود” رواية الاستدعاء، الَّتي يستدعي فيها الكاتب أحداث التاريخ، ليربط بينها و بين قضايا العصر، و أحداث الواقع المعيش؛ فقد اعتمد ” محمد فايز حجازي” بالفعل على تلك الآلية، مازجًا بين تاريخ اكتشاف و حفر آبار البترول في الماضي و تاريخ الحفر حديثا، خاصة في منطقة ” حاسي مسعود” كي يشير بما لا يدع مجالا للشَّكِّ إلى وقوف الحركات الإمبرياليَّة في الماضي و الحاضر، و خلفها منظمة ” الأقدام السَّوداء” الَّتي حاولت استغلال ثروة البترول لتحقيق أهدافها غير آبهةٍ بإلقاء الشعوب المنهوبة في غياهب الفقر، و الجهل و التَّخلف.
*البعد القوميّ في رواية ” الأقدام السَّوداء” :
لقد أفسدالمصريّ “حسن عبد الكريم” و زميله الجيولوجيّ المصريّ ” إسلام” مخطَّط شركة البترول العالميّة للاستيلاء على مخزون البترول بإيهام الجزائريّين بأنّ بئر الاستكشاف بئر ناضب، و ذلك بالتَّلاعب بعينات الحفر، و زاوية الميل، حتَّى ينتهي الأمر بردم البئر، و في المفاوضات التَّالية كان مخطّطاأن تحصل الشركة الأجنبية على امتيازات الحفر بأبخس الأثمان و أفضل الشُّروط. هذه هي اللُّعبة، أو قل المؤامرة، الّتي اكتشفها “حسن عبد الكريم”؛ فلم يتردَّد في تعريض حياته، و حياتي زميله “إسلام”، و حبيبته “داليا بنت بركة”للخطر من أحل أنْ يكشف ما ينفذه “ريكي”، و أعوانه للمسئولين الجزائريّين.
و كأنَّما أراد الكاتب أن يؤكد على أحد مقومات القوميّة العربيّة ألا و هو وحدة المصير، ذلك المقوم الّذي يرتبط ارتباطا وثيقا بوحدة اللّغة، و حدة التّاريخ. فالأمة العربيَّة مستهدفةٌ في ماضيها و حاضرها، تحيق بها الدَّوائر و المؤامرات، و الأطماع، الَّتي دفعت الشُّعوب العربيَّة أثمانها الباهظة على مدار التَّاريخ، و مازالت تدفعها إلى الآن.
*في رحاب اللُّغة:
لقد تراوحت لغة الكاتب بين اللّغة الحياتيَّة، و اللّغة المهنيّة العمليّة بما تحمله من مصطلحات يتداولها عادةً عمال و مهندسو البترول، هذا الأمر الَّذي أضفى على الرواية صبغة واقعيّة، لكنّه في الآن ذاته كاد أن يوقع الرّواية في شَركِ الجفاف و الرَّتابة، و هذا مافطن إليه الكاتب جيدًابما يملكه من خبرة و موهبة. و لكي يكسر الكاتب حِدَّة الجفاف و الرَّتابة عمد إلى عِدَّة أمور: أولها تخصيص مساحة كبيرة لقصة الحب الدَّافئة، الَّتي جمعتْ بين المهندس المصريّ”حسن عبد الكريم”، و الجيولوجيّة المتدرّبة الباحثة الجزائريّة”داليا بنت بركة”، عندئذٍ وجد الكاتب ضالته إلى اللُّغة الشَّاعرية الشَّفيفة من خلال عدد من المشاهد الرُّومانسيّة. لقد أودع الكاتب روايته من خلال قصَّةِ الحبِّ تلك عددا من الرَّسائل الضمنيّة، أهمها وحدة المصير بين الشُّعوب العربيّة، و الوجه الحقيقيّ للعلاقة بين شعبي مصر و الجزائر، تلك العلاقة المبنيّة في الأساس على الحبّ و الودّ و التَّآلف. و إنما أراد الكاتب أن يردَّ بقوةٍ على تلك الأصوات الرَّعناء الَّتي أراد أصحابها إحداث الفتنة و الوقيعة بين الشعبين المصريّ و الجزائريّ مستغلين مباريات كرة القدم؛ انتصارًا لتعصبهم الأعمى، وأهدافهم التَّافهة.ولكي يتغلب الكاتب على جفاف الطَّبيعة المهنيّة لمهندسي البترول اعتمد أيضًا على المشهديَّة، و البراعة في الوصف بدايةً من المشهد الأول، كما اعتمد في الآن ذاته على عنصر التَّشويق،و بخاصَّة في القسم الَّذي أعقب قرار ” حسن عبد الكريم بالفرار من الموقع بعد نقل زميله “إسلام” إلى المستشفى إثر تعرضه لحالة من حالات التسمم بتدبير من “ريكي”؛ لتبدأ خطة هروب المهندس حسن، و حبيبته “داليا” بمساعدة السَّائق الجزائريَّ العمّ ” يزيد”،و ما حملته تلك المشاهد من إثارةٍ و مفاجآتٍ.
بناء الرِّواية
كما أشرت سابقًا اعتمد الكاتب على المشهديَّة و الوصف، من خلال تقسيم الرِّواية إلى مقاطع متتابعة تضجُّ بلوحاتٍ متكاملةٍ تزدهي بخطوط اللّون و الصّوت و الحركة، كما أن الكاتب قد دعَّم روايته بصورفوتوغرافيّة للشخصيّات الحقيقيّة، كما خطَّ غير مَرّةٍ شكلًا أو رسمًا توضيحيًّا لمكونات الحفَّارة والمهام عليها وكذا تقسيمات غرف المعيشة بها؛ليقرِّب الأفكار إلى ذهن القارئ، كما أنه أجاد توظيف الحوار،فكان الحوار عنصرّا فعّالًا في تصاعد الأحداث،في حين تداخل صوت الرَّاوي العليم، و صوت الرَّاوي المشارك عبر مقاطع الرِّواية، مما أضفى علي السَّرد الحيويّة و المرونة.
*تفرد الموضوع:
إن أهم ما يميز هذه الرّواية من وجهة نظري هو تفرد موضوعها الَّذي طرق بابًا جديدًا لم يألفه القارئ، حيث ولج إلى عالم التّنقيب عن البترول، و استكشاف آباره؛مما أدّي إلى إمداد القارئ بزخم معرفيّ من الجِدَّة بمكانٍ.لقد كتب محمّد فايز حجازيّ” تلك المشاهد بحرفيَّة الخبير العالم بأسرار تلك المهنة؛ إذ إنه في حقيقة الأمر مهندس بترول، يعمل منذ سنواتٍ طويلةٍ في حفر آباره، و ربما تجدر الإشارة أيضا إلى أنه قد عمل لفترة من حياته في الجزائر الشّقيق، و بالتّحديد في منطقة ” حاسي مسعود”، حيث اختارها الكاتب مسرحًا للأحداث.
*خاتمة خالفت التوقعات:
لقد جاءت الخاتمة بشكل خالف التَّوقعات؛ فقد اختزل الكاتب أكثر من خمسة و عشرين عامًا، ليتيح التقاءالماضي بالمستقبل في مشهدٍ بهيج لصلاة العيد بين مسجد ” الرفاعيّ” و”السُّلطان حسن”، تلك الخاتمة، التي أضفت على الرواية شيئًا من البهجة و الدَّهشة، و فتحت بابًا من أبواب الأمل في تغييرالواقعٍ العربيٍّ على أيادي الأجيال الشابَّة إلى واقعٍ آخر مغايرٍ.