كتبها- وليد شاهين
افتتح أول إذاعة بالمملكة العربية السعودية بصوته
قرأ سورة الكهف بالمسجد الأقصي جمعتين متتاليتين
على الرغم من شهرته التي ارتفعت مع الأيام فإنه لم ينس قريته وأهله هناك، فظل على عمله بينهم مأذونا للقرية حتى بعد إنتقاله إلى القاهرة، كانت في صوته نبرة تأخذك إلى حيث رحيق الجنة، ولما أصيب في صوته، آثر أن ينسحب من دنيا الميكرفون، ليظل صوته في ذاكرة مريديه عشرين عاما قبل وفاته.
هو علم من أعلام دولة التلاوة فى الرعيل الذهبى الأول، إنه الشيخ “عبد الرحمن الدروي”، المولود بقرية “دروة” مركز أشمون بمحافظة المنوفية، في أحد أيام أغسطس من عام 1903 م، أتم حفظ القرآن الكريم وفي كتاب القرية وهو لم يتعد التاسعة من عمره، ثم انتقل إلى القاهرة، وهناك ألتحق بالأزهر الشريف للاستزادة من العلم والثقافة.
بدأ نجم الشيخ “الدروي” يسطع ويتألق في عالم القراءة، لما كان يتمتع به من صوت دافئ، وقرار سليم، ونبرة تهز الوجدان قبل الأذان، وكان يقرأ القرآن في مأتم محمود فهمي النقراشي باشا، فسمعه رئيس الحكومة في ذلك الوقت، وهو يرتل ترتيلاً حسناً بصوت كله شجن.. فسأل عن اسمه، ولماذا لم يقرأ في الإذاعة؟! فكان هذا السؤال بمثابة أذاناً لدخوله إلى الإذاعة قبل تمصيرها عام 1942 م.
وبالرغم من شهرة الشيخ التى حققها بعد التحاقه بالإذاعة وصوته الذى أصبح ينتشر عبر الأثير، فإنه لم ينس قريته، فقد ظل مرتبطاً بها حتى وفاته، إذ كان يعمل مأذوناً لأهلها حتى وفاته، وفي القاهرة نقل المأذونية من قرية “دروة” إلى شياخة الكردي، التابعة لمحكمة الجمالية حيث كان يقطن.
قام الشيخ بأداء فريضة الحج عام 1948، وأثناء ذلك طلبته الحكومة السعودية ليفتتح أول إذاعة للمملكة، وكان معه في هذا الوقت رئيس بعثة الإذاعة المصرية، فوافق وقام بتسجيل 4 ساعات، ورفض أن يتقاضى أجراً على التسجيلات قائلاً: “كيف أتقاضى أجراً عن قرآن تلوته في بلد نزل عليه وفيه القرآن؟!.. وسأقرأ دون شروط”.
دعي الشيخ “عبد الرحمن الدروى” إلى المملكة الأردنية الهاشمية عام 1953، وهناك سجل 16 تسجيلا ومن حسن حظه وهذا لم يتح للكثيرين، أن قرأ سورة الكهف بالمسجد الأقصي جمعتين متتاليتين، وقتها كانت فلسطين تتبع المملكة الأردنية، وهي سابقة ليست لغيره.
كتبت عنه جريدة الدفاع أثناء فترة وجودة بالأردن فى صدر افتتاحيتها تقول: “تعاقدت دار الإذاعة الأردنية مع المقرئ الشهير الشيخ عبد الرحمن الدروي، من كبار المقرئين في الإذاعة المصرية على المجيء إلى الأردن لتسجيل بعض القراءات له، وقدم الشيخ وقد سجلت له 16 إذاعة، وتبرع فضيلته بتلاوة آي الذكر الحكيم في المسجد الأقصى يوم الجمعة الماضية، وسيقرأ فضيلته غدا بالحرم الإبراهيمي وسيظل يقرأ طيلة مدة إقامته هنا في المسجد الأقصى “دون مقابل”.. إنتهى كلامها.
كما قالت عنه جريدة “فلسطين” تحت عنوان “مقرئ معروف من مصر” قدم إلى رام الله يوم الثلاثاء الماضي.. المقرئ المعروف بدار الإذاعة المصرية فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدروي بدعوة من دار الإذاعة الأردنية الهاشمية، لتسجيل آي الذكر الحكيم، لمدة أربع ساعات، ثم يعود إلى القاهرة، وقد أدى فضيلته صلاة الجمعة أمس بالمسجد الأقصى المبارك، وقد أقام الشيخ عبد الغني كاملة، مأدبة غداء على شرف الشيخ عبد الرحمن الدروي الذي كان موضع حفاوة وتكريم الكثيرين من مقدري علمه وفضله، نرحب به ونتمنى له طيب الإقامة في الأردن بين أهله وإخوانه “.
هذا هو ما دفع إذاعة لندن عن طريق الاستديو الخاص بها بالقاهرة، والذي كان يشرف عليه الرائد السيد بدير، لأن تسجل له عدة تسجيلات، تعد من أندر التسجيلات للشيخ الدروي، وقد أرسل ابنه محمود – واحد من سبعة أبناء للشيخ – أرسل للإذاعة في طلب تسجيلات والده، فاهتم المسئولون عن الإذاعة واخبروه بأن القسم العربي بالإذاعة قد وافق على منحه بعض التسجيلات، وأرسلوا له شريطاً واحداً عليه عدة قراءات للشيخ تتراوح بين 8 و 12 دقيقة.
ظل الشيخ “عبد الرحمن الدروي” باراً بأهل قريته، فكان لا يتقاضى أجراً عن إحياء الليالي ولا عن الزيجات التي كان يقوم بتحريرها، وكان يقول: “إن النبرة الغريبة التي في صوته، يتميز بها أهل قريته، وهي نبرة يكسوها الحزن والشجن للواقع المر الذي كانت تعيشه القرية من شاطئ الرياح المنوفي”.
ومن عادة باشوات ما قبل الثورة إقامة المآدب الرمضانية التي كان يدعى لإحيائها مشاهير القراء.. فكان الشيخ “الدروي” يذهب للإقامة بعزبة محمد محمود جلال بك ببني مزار ومرة أخرى إلى عزبة البدراوي باشا عاشور لقراءة القرآن، وكان من هواياته الاستماع إلى تسجيلات الشيخ علي محمود، والشيخ محمد رفعت، وكان شغوفا بحضور الليالي التي كان يقيمها الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي الذي كان يصف صوته بأنه من أعظم الأصوات!
ظل الشيخ “عبد الرحمن الدروى” قارئاً للسورة بمسجد الكخيا بالقاهرة، لكنه لم يستطع تسجيل القرآن مرتلا، وكان ذلك عام 1962 عندما أصيب بمرض بالأحبال الصوتية، فآثر أن ينسحب من دنيا الميكرفون ليظل في ذاكرة محبيه بصوته الحسن، وإن كان هذا لم يمنعه من إحياء الليالي، كلما خفت حدة المرض، ووجد نفسه قادراً على القراءة، وظل على ذلك حتى أسلم الروح إلى بارئها راضياً مرضياً بما قدم من تلاوة صبيحة يوم الأربعاء الثانى من يناير عام 1991، عن عمر ناهز 88 عاماً قضاها فى تلاوة كتاب الله العزيز.. رحم الله شيخنا الجليل رحمةً واسعة واسكنه فسيح جناته.