المساعدات الإنسانية صلة بين الفلسطينيين والعالم – أو هذا هو المخطط الاحتلالي – لا تشغلهم مواطنة، ولا انتماء، ولا استشراف مستقبل. يتلقون المساعدات والمنح والهبات وفرص التشغيل، فإذا حاولوا اجتياز الخطوط الحمراء، كل ما عدا التقاط الأنفاس، واجهوا عقوبات تشمل الاعتقال والسجن والاغتيال وتدمير المساكن والنفي والتسفير.
لك أن تتصور دولة قوامها المساعدات الإنسانية. لا قدرة لمواطنيها على حكم أنفسهم، ولا قوات مسلحة، ولا تمثيل خارجي، ولا مشاركة في أنشطة دولية.
ذلك هو تصور القيادة السياسية الأمريكية لأوضاع الشعب الفلسطيني في ما تبقى من أرضه.
لكي أقرب الصورة، فإن المساعدات الإنسانية – أستخدم التعبير الأمريكي – هي غاية ما تقدمه واشنطن لتواصل حياة الشعب الفلسطيني. عدا ذلك فإنه يعد عملًا عدائيًا يقابل بالعنف المسلح. والشواهد بلا حصر، تشرق عليها الشمس كل صباح، وتغرب كل ليلة، في امتداد الأرض الفلسطينية.
لست أدري كيف تدعي واشنطن لنفسها صفة الوسيط بين الفلسطينيين وسلطة الاحتلال الصهيوني. إن كل ما يصدر عنها من تصرفات وتصريحات يؤكد انحيازها لإسرائيل، في تغاض مجرم عن الممارسات الإسرائيلية البشعة ضد الشعب الفلسطيني.
التصور الذي بنت عليه الولايات المتحدة وساطتها يتلخص في تحول مناطق الخط الأخضر والضفة الغربية وقطاع غزة إلى مناطق خالية من السلاح، ومن مقومات الحياة الحقيقية، وتخضع للقوة العسكرية الصهيونية، في الإقامة، والتنقل، ومصادر الدخل، وما يشكل حياة مستقرة.
عش بلا أي مقومات للعيش الكريم، في ظل حكم عسكري معاد، يفرض عليك قوانين متعسفة، ويحاسبك على كل خطواتك. حتى حق السكن في البيت الذي ورثته عن أجدادك، يواجه قرار الإزالة بأسباب مختلقة، والحبس الإداري وسيلة لحرمان آلاف المواطنين من أبسط حقوق الإنسان، وهو العيش في حرية.
للأسف، فإن الهيمنة العسكرية الصهيونية على مقدرات الشعب الفلسطيني، تقابلها تبعية مطلقة من الجانب الفلسطيني ممثلًا في سلطة رام الله، تبلغ حد التعاون الأمني بينها وبين سلطة الاحتلال!
إذا كان العالم – بما فيه الأقطار العربية – سعيًا لإقرار السلم، قد وافق على الحل الذي تنقصه العدالة، بدولة فلسطين في حدود ما قبل 1967، فإن ممارسات الكيان الصهيوني، فضلًا عن تصريحات قادته المعلنة، ترفض ذلك الحل، وتصر على تهويد كل الأراضي الفلسطينية. أذكرك بقول وزير المالية الإسرائيلي – تعليقًا على فكرة إقامة الدولة الفلسطينية – : لا سمح الله!
حل الدولتين ليس واردًا في ذهن نتنياهو، ولا في أذهان الساسة الإسرائيليين. ذلك موقف الائتلاف الحاكم والأحزاب المعارضة. التصور الوحيد هو الدولة اليهودية على أرض فلسطين، بداية لتحقيق حلم من النيل إلى الفرات.
إنه يدعو إلى دولة فلسطينية. هذا ما قاله نتنياهو، تعقيبًا على رأي سياسي غربي. اللهجة استنكارية، وغير مصدقة. أضاف – والكلمات موثقة في الفضائيات – أن المناطق التي يقيم فيها الفلسطينيون يجب أن تكون منزوعة السلاح، وخاضعة للسلطة العسكرية الإسرائيلية.
على ماذا يجري التفاوض إذن؟
لم تكن انتفاضة السابع من أكتوبر عبثية، كما ادعت بعض الأقلام. إنها العامل المباشر في تحريك القضية الفلسطبنية، وتضخم أعداد المؤيدين لحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، وهو ما تجلى في قرار الأمم المتحدة الذي قارب الإجماع في حق الفسطينيين في دولتهم المستقلة، وفي قرار مجلس الأمن المماثل الذي أجهضته عقلية أمريكية استعمارية متحجرة، وفي قرار محكمة العدل الدولية بإيقاف الحرب الصهيونية ضد قطاع غزة، وإعلان المحكمة الجنائية الدولية نتنياهو وجالنت مطلوبين للعدالة، ثم في المظاهرات التي شملت أرجاء العالم، حتى في المدن والجامعات الأمريكية، ودول الغرب الاستعمارية، وتوالي اعترافات دول أوروبية بسيادة الشعب الفلسطينى على دولته المستقلة!
نحن نكتشف فى كل صدام مع العدو الصهيونى أن أمريكا هي العدو الحقيقى، هي التي تدعم إسرائيل اقتصاديا، وتزودها بأحدث ما فى الترسانة الأمريكية من أسلحة، وتعلن حق الاعتراض ( الفيتو ) أمام أية محاولة لإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ..
الشعارات التى ترفعها أمريكا هى: حرية الشعوب، وحق تقرير المصير، ورفض الإرهاب، والمساواة بين البشر.. لكن التطبيق يناقض الشعارات تمامًا ، وبالذات فيما يتصل بالممارسات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة.
من الأهداف المعلنة للسياسة الأمريكية، أن تتفوق إسرائيل – هذه الجزيرة الصغيرة في المحيط العربي الواسع – على كل الدول العربية مجتمعة.
وكان التدخل الأمريكى المعلن فى حرب 1973 هو الذى حال دون أن يستكمل المصريون تحرير بلادهم.
وحين يقدم شاب فلسطيني على عملية استشهادية، فإن البيت الأبيض يعلن إدانته للإرهاب. أما إذا كررت إسرائيل عمليات إرهاب الدولة ضد المواطنين الفلسطينيين، فإن ما يدعو إليه الساسة الأمريكيون هو ضبط النفس!
لقد انطوى على دلالات مؤكدة خروج أمريكا – للمرة الأولى منذ 1945 – من عضوية لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادى والاجتماعى للأمم المتحدة بجنيف. فقدت مقعدها بين المقاعد الثلاثة المخصصة لدول الغرب. حصلت كل من فرنسا على 52 صوتًا، والنمسا 41 صوتًا، والسويد 32 صوتًا، بينما لم تحصل الولايات المتحدة إلا على 29 صوتًا، وخرجت بالاقتراع السرى. وكان المتصور أن يفضي ذلك السقوط/ الصدمة، إلى مراجعة واشنطن لمواقفها من قضايا الاستقلال والحرية والتحرر وحقوق الإنسان، لكن الوضع استمر على ما هو عليه.
من حق المدعين أن يردوا هيئة المحكمة إذا شكّوا فى حيدتها. ومع أن أمريكا تعلن في كل مناسبة – وأحيانًا بلا مناسبة0 أنها منحازة للكيان الصهيونى، فإننا نطلق عليها – باعتزاز – تسمية ” راعى عملية السلام “.
أى سلام ؟!
لعل أهم ما أفرزته حرب إسرائيل الأخيرة ضد الفلسطينيين أنها كشفت المخططات الحقيقية التى تستهدف المنطقة، بعيدًا عن الشعارات المبهرة، والزيف الإعلامى.
المقاومة – في ظل الصلف الصهيوني، والتواطؤ الأمريكي – ضرورة وليست خيارًا.