بديهي أن يتتلمذ المبدع – في بدايات مشواره – على أستاذ أو أكثر، ينصحه، ويوجهه، حتى تستقيم خطواته. لكن يوسف إدريس لم يقتصر في حياة زينب صادق على دور الأستاذ، فهي تدين له بفضل الاكتشاف. كانت الصحافة مهنتها، والشعر هوايتها، فضلًا عن الحكايات، أو الخواطر السردية التي لا تنسبها إلى جنس فني محدد.
كانت الدردشات الثنائية، أو أكثر، في قعدات ندوة يوسف الشاروني بكافيه كوستا جزيرة العرب، مجالًا لمناقشة أحوالنا الثقافية، واستعادة جوانب من السير الحياتية والفنية. وهو ما أتاح لي أن أتعرف إلى ما لم أكن أعرفه – وحدثتك عنه – من أفواه الشاروني وعبد الغفار مكاوي وأحمد إبراهيم الفقيه وعبد القادر حميدة وزينب صادق وسامي رافع وفؤاد قنديل وأشرف خليل وعادل وديع فلسطين وزينب العسال وغيرهم.
فاجأتني – بعد فترة قصيرة من إهدائي رواية” أهل البحر” لها – بقولها الهامس: اقرأ صباح الخير. أذهلتني قدرتها – بجملها القصيرة الدالة – على الوصل بين اللوحات المنفصلة، أبطالها شخصيات حقيقية ومتخيلة، لكنها تعبر عن مشهد بانورامي، في الفترة من أوائل القرن العشرين إلى نهايته.
قالت لي زينب صادق : بدأت بكتابة الشعر بالإنجليزية، وتخرجت في قسم الصحافة بجامعة القاهرة، لكنني أحببت اللغة الإنجليزية قبل أن أتعلمها في المدرسة، كان بيتنا يهتم باللغات. وحين التحقت بالجامعة كان قسم الصحافة قد افتتح. كان الطالب – حينذاك – يتنقل بين الأقسام، قبل أن يلتحق بالقسم الذي يناسبه، وشجعتني زميلات على الالتحاق بالقسم، وانضممت إلى أول دفعة مع سناء البيسي وعايدة صالح وحسنة حنفي وسناء البيسي وجمال حمدي، ثم انضممت لفرقة الشعر، لكنهم طلبوا أن أكتب بالعربية. أغراني الشعر الحر، وكان يحضر إلينا يوسف إدريس والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وعندما اطلع إدريس على محاولاتي الشعرية، قال لي: ما تكتبينه هو القصة. اغلقي باب الشعر، وافتحي باب لقصة. وكانت تلك هي بدايتي القصصية.
البداية الصحفية تعود إلى فترة تدريبها العملي: كان أحمد بهاء الدين رئيسًا لتحرير ” صباح الخير”، ولويس جريس يدرب مجموعة من طلاب قسم الصحافة، وراحت مجموعة إلى” الأخبار”، منها صافي ناز كاظم وسناء البيسي وسناء فتح الله. وإلى جانب ” صباح الخير” أعددت سلسلة تحقيقات سريعة لجريدة ” المساء”، أسأل الناس العاديين: ماذا يريدون الآن؟. وعبرت في باب بعنوان” يوميات الشعب” عن أحلام البسطاء من العمال والموظفين والفلاحين والصيايين والمراكبية.
كانت تلك التجربة هي التي دفعتني إلى كتابة الحكايات. لما نشرت أولاها في صباح الخير فوجئت باتهام من صحفي شهير آنذاك، بأن إحسان عبد القدوس هو الذي يكتب قصص بنات صباح الخير، والمعني واضح.
الغريب أن البعض صدق ذلك الاتهام النكتة، فقال لي إحسان ضاحكًا: ردك عليه أن تستمري في الكتابة. وهذا ما حدث.
بالمناسبة، كلفني لويس جريس بإعادة كتابة موضوعات زميلاتي في ” صباح الخير”، ولما راجع بهاء أصول الكتابات، وصياغتي لها، تنبأ بأن أكون الوحيدة التي تواصل العمل الصحفي.
إذا كانت تدين ليوسف إدريس بفضل اكتشاف موهبتها القصصية، فإنها ترجع البداية إلى أعوام الصبا: كان أبي يأتي لنا بكل الصحف، ووفر لي حكايات ألف ليلة وليلة، وروايات جرجي زيدان. قرأتها في الإجازة، فلم أستطع أداء شغل البيت، لإشفاق أمي وأختي على بنيتي الضعيفة. أحببت القراءة، ومنها اشتقت للكتابة، وأول خاطرة – أو قصة حسب رؤية يوسف إدريس – كتبتها في 1958.
تضيف: أحببت ” صباح الخير” لأنه ليس لدي حساسية الخبر الصحفي. لم يشغلني الأمر فقد صارحني أستاذي أحمد بهاء الدين بأنه يحب كتابة المقالات الصحفية التي يضع فيها الكاتب بضعًا من مشاعره وأحاسيسه ورؤاه المختلفة. وكان ذلك هو باعث تفضيلي لهذا النوع من الكتابة. لذلك – والكلام لزينب صادق – اعتذرت عن عرض أحمد بهاء الدين بالعمل معه في” الأخبار”. خشيت التوهان في صفحات الجريدة، بعد أن اعتدت دفء صفحات ” صباح الخير”.
تستعيد فترة إشراف الفنان الكبير الراحل حسن فؤاد على صباح الخير. تصفه بأنه صانع الموهب، ومكتشفها. طلب منها أن تكتب سلسلة من الموضوعات بعنوان” مذكرات مراهقة”، رفضت في البداية، لتجاوزها سن المراهقة، ثم أعادت مناقشة الأمر، فوافقت على تقمص شخصية الفتاة المراهقة، وتحولت المذكرات – بعد فترة – إلى باب ثابت منذ 1973، بعنوان” أنا والحياة” يتضمن عروضًا لمشاهداتها وقراءاتها وحواراتها مع الآخرين.
تعتز بتناوبها كتابة باب ” نادي القلوب الرحيمة” مع الروائي الكبير صبري موسى، عرضا فيه لمشكلات الناس وأحلامهم وتطلعاتهم، بداية من مشكلات العيش حتى مشكلات الحب والخصام والفراق، وهو ما عبر عنه مودي حكيم بالتأكيد على همسات الحب، ونبضات الشوق، في نفوس حرمها الزمان من الحنان، وبحثت عن الأمان، ” أشخاص لم تجمعهم الأيام، ولكن جمعتهم الذكريات المصحوبة بالنصائح من زينب وصبري.
في عملها المشترك مع كاتب آخر، تقول زينب: صبري موسى أحد أجنحة الإبداع والتميز في تاريخ ” صباح الخير”. عقب عودته من الولايات المتحدة، وفي أثناء اطلاعه زملائه بالمجلة على أحدث الصيحات الصحفية والأدبية والإصدارات والملابس ونمط الحياة، تولدت هذه الفكرة، ثم بدأ تنفيذها بالمشاركة، وتواصلت أعوام الثمانينيات.
حين زرت الزوجين زينب صادق وسامي رافع، في شقتهما المطلة على حي المهندسين، استعدت زياراتي لأصدقاء تختلف ميولهما الإبداعية. غلب الفن التشكيلي – على سبيل المثال – في شقة جاذبية سري المحندقة، تكاد تتطابق – في حجمها ونسقها الموحي – مع شقة الزوجين صادق ورافع في السمة الجمالية التي تشعرك بالجلوس في حضرة الفن. ربما تأكيدًا لوحدة الفنون من حيث إطلالة العمل على الإبداع في أحد تجلياته. ثمة أيقونات وصور شخصية وميداليات على أرفف المكتبة الخشبية، وأكثر من لوحة لسامي، تمثل – مع النافذة المفتوحة على الأفق – تكوينًا فنيًا موحيًا. وثمة باب يفضي إلى ما يشبه الحديقة المغطاة بأصص الورود والزهور ونبات الصبار. الستائر ذات الألوان الهادئة تفصل حجرة الاستقبال عن بقية الشقة، بينما تناثرت الكتب على الطاولات في الزوايا تتصاعد إلى جانبها زهور في فازات أنيقة.
سألتها وأنا أتجه بنظرتي إلى سامي رافع: ما رأيك في الزواج من فنان تشكيلي؟
قالت: صعب وكويس في الوقت نفسه. تزوجت سامي في 1986، وكنت قد أنجزت في عملي الكثير. أهم شيء في زواج الفنان – ولك أن تعدني فنانة كذلك – أن يعرف الشخص طباع الآخر، ومزاجه الفني والنفسي، ويحترم لحظات الإبداع في حياته. أما الصعوبة فهي أنك قد تري الشيء نفسه الذي يريده. التوافق في العمل لا يعني أن يكتم أحد الزوجين على نفس الآخر.
لا ترفض وصف كتاباتها بالرومانسية. إنها تبعد عن الخيال بقدر اقترابها من الواقع. الرومانسية الحقيقية – حسب رأيها – ليست تحليقًا في الفراغ، لكنها تعبر عن طبيعة وجدانية محبة تقف على أرضية الواقع والمعاناة والتطلع إلى ما هو أفضل.
ترفض تسمية الأدب النسائي. ليس شرطًا أن تكون الرواية التي تكتبها المرأة نسائية. الكتابة هي الكتابة، لا يوجد أدب ذكوري ولا أدب نسوي، إنما الأدب إنساني يعبر عن الطبيعة الإسانية في كل أحوالها.
الميزات التى يحصل عليها الرجل، ولا تحصل عليها المرأة، يجب أن ننظر إليها، ونعالجها، بالكيفية نفسها التى ننظر بها، ونعالج حصول بعض الرجال، وبعض النساء، على ما ليس من حقهم، وعدم حصول بعض الرجال، وبعض النساء على ما هو حقهم. يجب أن نضع الأمر فى إطار غياب تكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع الواحد.
وعن سيرتها الذاتية، إذا كانت قد تناولتها في أحداث حقيقية، أم ضفرتها في إبداعها السردي، فهي تلاحظ أنها لا تتعمد الخلو إلى الذكريات، وتسجيلها بصورة مباشرة، وعلى حد قولها: أنا أكتب، وأشتغل على تجاربي وتجارب الآخرين، تمثل تجربتي الشخصية منها 90%، بينما الباقي تخيل. روايتي” كنا في زمن أحباب”- مثلًا – تجربة شخصية تكاد تخلو من التخيل. قد تبدو بعض أحداثها صعبة الحدوث، أو تستدعي المراجعة، لكن ذلك هو ما حدث!
زينب صادق فهمي. ولدت بالقاهرة في 1935. تعلمت في مدرسة محمد علي، فالمدرسة السنية الثانوية، ثم دخلت قسم الصحافة بآداب القاهرة. أولى رواياتها” شهور الصيف”. طالت ركنتها في درج مكتب فتحي غانم – رئيس تحرير صباح الخير آنذاك – ثم فوجئت بها منجمة في المجلة بتقديم لفتحي غانم، تنبأ فيها لزينب بمستقبل واعد، وأشار إلى أنها تختلف عن أي أديبة أخرى، لأنها تمتلك مهارة الكثيف في السرد، بعكس ما ادعاه توفيق الحكيم بأن كتابات المرأة شبيهة بغزل التريكو، تأخذ وقتًا وجهدًا، والناتج شيء صغير. صدر لها 20 كتابًا بين مجموعات قصصية وروايات. من مؤلفاتها الروائية: يوم بعد يوم، لا تسرق الأحلام، آخر ليالي الشتاء’، يوميات امرأة مطلقة، ومن مجموعاتها القصصية: عندما يقترب الحب” ضاع منها في الزحام، نسيم الصبا، كنا في زمن أحباب، هذا النوع من النساء. انقذني من أحلامي. وصدر لها “حكايات بنات من زمن فات، وحكايات زينب صادق، وأمنيات في ضوء القمر. كما حولت بعض كتاباتها دراميًا، ومنها فيلم” ابتسامة واحدة تكفي”، المأخوذ عن رواية” يوم بعد يوم”، بطولة يسرا ونور الشريف، وفيلم “آخر ليالي الشتاء” بطولة إيمان الطوخي ويوف شعبان، بالإضافة إلى العديد من المسلسلات التليفزيونية.
تقول صافي ناز كاظم إن زينب صادق تمنحها الأحقية في أن تقول عنها بلاتردد: إنها أديبة مخلصة لكتابتها، تملك موهبة وصبرًا ونفسًا طويلًا، كرستها جميعًا لخدمة طموحها في هذه الحياة، هذا الطموح الذي لم يهتز لحظة عن قصد واحد هو: أن تكون كاتبة ناجحة تأخذ مكانها في حيز الإبداع الأدبي المعاصر، فالكتابة عند زينب صادق هي حياتها، إذ أن الحياة عندها هي: أن تعيش لتكتب، وما عرفت – في كل من عرفت – أديبًا تمحورت كتابته حول نفسه، وتمحور حول كتابته كما حدث ويحدث لزينب صادق.
هذا العالم الإنساني الجميل، أخذه الموت من حياتنا.
رحم الله زينب صادق.