بقلم ✍️ شحاتة زكريا (كاتب وباحث متخصص في الشؤون الاقتصادية والسياسية)
عبر تاريخها الطويل واجهت مصر تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية لا تعد ولا تحصى ، ومع ذلك أثبت الاقتصاد المصري مرارا أنه كيان صلب قادر على الصمود بل والانتعاش في ظل أصعب الظروف.
في الوقت الذي تشهد فيه العديد من دول العالم اضطرابات مالية غير مسبوقة يبرز الاقتصاد المصري كحالة استثنائية تستحق التأمل والدراسة.
لقد مرت مصر خلال السنوات الأخيرة بمنعطفات اقتصادية شديدة الصعوبة ، شملت تضخما عالميا متسارعا ، وتقلبات في أسواق الطاقة ، وأزمات طاحنة مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية ،ومع ذلك استطاعت مصر، بفضل استراتيجياتها الاقتصادية ورؤيتها التنموية ، أن تحافظ على توازنها ، بل وأن تحقق معدلات نمو تفوقت على توقعات العديد من المؤسسات الدولية.
إن صمود الاقتصاد المصري لم يكن وليد الصدفة بل جاء نتيجة لسياسات مدروسة وتعاون بين مختلف أجهزة الدولة، فمنذ إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي في السنوات الأخيرة تحولت بنية الاقتصاد المصري بشكل جذري.
ركزت هذه الإصلاحات على تحرير سوق الصرف ، وتعزيز الاستثمار في البنية التحتية وزيادة الاعتماد على القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة والسياحة ، مما أعطى الاقتصاد عمقا ومرونة مكنته من التعامل مع الصدمات المتتالية.
ولكن كما هو الحال مع أي تحول كبير لم يكن الطريق سهلا،فقد تحمل المواطن المصري نصيبا ليس بالقليل من العبء سواء من خلال ارتفاع تكلفة المعيشة أو زيادة التحديات اليومية، ومع ذلك فإن الدولة لم تتجاهل الجانب الاجتماعي ، حيث أطلقت برامج عديدة لدعم الفئات الأكثر تضررا ، مثل “تكافل وكرامة” وغيرها من المبادرات التي تهدف إلى تقليل الفجوة بين الشرائح المجتمعية.
الأزمات الاقتصادية على الرغم من قسوتها ، أثبتت أنها أيضا فرصة للتغيير والنمو.
لقد دفعت مصر إلى تنويع مصادر دخلها القومي ، وزيادة التركيز على التصدير وجذب الاستثمارات الأجنبية. كما لعبت المبادرات الوطنية الكبرى، مثل مشروع قناة السويس الجديدة والمشروعات القومية في الإسكان والزراعة، دورا محوريا في خلق فرص عمل وتعزيز ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه أي اقتصاد في عالم اليوم هو التضخم. هذا “السرطان الاقتصادي” الذي يمكن أن يهدد استقرار أي دولة، لم يكن استثناءً في مصر. ومع ذلك، تعاملت الحكومة مع هذا التحدي بخطوات جادة ومتزنة، شملت رفع معدلات الفائدة، وتشديد السياسات النقدية، إلى جانب تعزيز الإنتاج المحلي للحد من الاعتماد على الواردات.
العالم اليوم يشهد تغيرات جذرية في قواعد الاقتصاد والسياسة ومصر ليست بمنأى عن هذه التغيرات. ومع ذلك فإن ما يجعل التجربة المصرية مميزة هو قدرتها على التكيف ، واستغلال التحديات كفرصة لإعادة ترتيب الأولويات.
لقد أصبح واضحا أن النجاح الاقتصادي لا يتعلق فقط بالأرقام والنسب بل يعتمد أيضا على رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المواطن العادي ، وتعمل على تعزيز الثقة بين الدولة وشعبها.
في النهاية يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع الاقتصاد المصري الحفاظ على زخمه الحالي؟ الإجابة تكمن في استمرارية الإصلاحات وتعزيز الشفافية ، والاستثمار في العنصر البشري. فالتاريخ يعلمنا أن مصر بحضارتها العريقة وشعبها الصبور قادرة دائما على تجاوز المحن وتحويلها إلى إنجازات تُدرَّس للأجيال القادمة.