يناوشني السؤال: لماذا لا يرشح عرب الولايات المتحدة السيناتور بيرني ساندرز رئيسًا للبلاد؟
لساندرز مواقفه المعلنة، المتمثلة في الدعوة إلى حجب المساعدات العسكرية والمالية عن إسرائيل، وتوقف حكومة بلاده عن التواطؤ في كارثة غزة الإنسانية، وضرورة إعادة النظر في قرار دعم واشنطن للكيان الصهيوني. وزاد الرجل فاتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإهانة الشعب الأمريكي في قوله إن أي احتجاج ضد إسرائيل هو معاد للسامية.
لعلى أذكرك كذلك بأن ساندرز هو من رشح نفسه في الانتخابات الفائتة، مدافعًا عن الشعب الفلسطيني، وعن الحق العربي، وحين حجبت الجالية العربية أصواتها عنه، وخصوا بها الرئيس الحالي بايدن، عاب عليها، وعلى الساسة العرب عمومًا، تخاذلهم في مواجهة اللوبي الصهيوني، وقوله في كلمات محددة وصريحة: ألا تعرفون معنى عزة النفس؟!
الإجابة الحاضرة تنزع عن الرجل فرصة الوقوف -على أي نحو-إلى جانب المرشحين الجمهوري والديمقراطي. فرصته في الفوز ضئيلة، بل هي منعدمة، لكن المعنى يظل أعمق وأخطر من مجرد الفوز في معركة انتخابية.
يغيظني قول البعض من العرب الأمريكان إنهم سيعطون أصواتهم لترامب بدلًا من بايدن. يردفون إلى دهشتك المتسائلة: نحن نعلم أن ترامب له علاقة أشد توثقًا باللوبي الصهيوني، وبدولة إسرائيل، لكن بايدن لم يف بتعهداته معنا، ومن المهم أن نعاقبه.
والحق أن العقاب الذي يتحدث عنه الناقمون على بايدن، هو مكافأة غير محسوبة لأحد صنائع الصهيونية العالمية، وإذا كان انتخابه من باب الكيد للمرشح المنافس، فإن سلبية النتائج ستشمل نتائج الانتخابات مطلقًا.
إن ترشيح ساندرز وانتخابه إشارة ذكية وواعية إلى تقليدية الانتخابات الأمريكية، واقتصارها على مرشح للديمقراطيين، وآخر للجمهوريين، وكل منهما مثقل بالنهج الاستعماري الذي تحرص عليه السياسة الأمريكية، وبخاصة في مواقع اتخاذ الفرار.
دعوت إلى تقوية اللوبي العربي في الولايات الأمريكية بما يتيح صوتًا أعمق، وآراء نافذة. لم أتوقع للوبي العربي، في حال وجوده الفعلي، أن يبدل الصورة الثابتة منذ عشرات السنين، لكنني أردت أن أضيف تكوينًا جديدًا، يمثل – بتعاظمه – صورة المستقبل.
أذكر أني أشرت – في كلمات سابقة – إلى أن الصندوق الانتخابي هو الذي يحكم الولايات المتحدة. مفتاح الصندوق – عبر العقود الأخيرة – في يد اللوبي الصهيوني. وعدم إطلاق فترة الهيمنة الصهيونية على الصندوق الانتخابي، وعلى سير العمليات لأمريكية بتعدد مستوياتها، لأن الصورة في عهد الرئيس الأسيق أيزنهاور – مثلًا – لم تكن كذلك. فقد فاز في انتخابات الرئاسة رغم معارضة اللوبي الصهيوني. وكان لإنذاره – إلى جانب إنذار الزعيم السوفييتي بولجانين – تأثيره في انسحاب إسرائيل من سيناء، بعد أن شكلت في عدوان 1956 على مصر قوة تابعة لفرنسا وإنجلترا، ووجد بن جوريون في الانسحاب المصري من سيناء ما يغري بضمها إلى بلده، لولا وقفة أيزنهاور الصارمة، في موازاة الإنذار السوفييتي بالمعني نفسه.
تكوين آخر في المشهد، يمثله اللوبي الصهيوني الذي أفلح، من خلال منظمة إيباك، بالسيطرة علي المراكز المهمة للإعلام الأمريكي أن تفرض كلمة نافذة على الصندوق الانتخابي الأمريكي.
الصندوق الانتخابي هو الذي أملى على الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب إعلان شطري القدس – تجاوزًا للقرارات الدولية – عاصمة لدولة إسرائيل، وأبدى الرئيس الحالي بايدن اعتزازه بالحركة الصهيونية، وأنها لو لم تكن موجودة لاخترعها، أما وزير الخارجية بلينكن، فقد قال – من خلال أداء مسرحي مؤثر – غداة الهزيمة التي ألحقتها المقاومة بالجيش الإسرائيلي في السابع من أكتوبر – إنه قدم إلى تل أبيب لا بصفته وزير خارجية الدولة الكبرى في العالم، وإنما لديانته اليهودية، ولأن جده – يا عيني ! – عانى ويلات التعذيب النازي!
نستطيع – وفق هذه النظرة – فهم تلاحق أوامر القيادة السياسية الأمريكية بالوقوف إلى جانب إسرائيل من خلال زيارة سريعة من الرئيس بايدن، ودعوة رؤساء الغرب إلى زيارات مماثلة، كما دفعت واشنطن حاملتي طائرات ومدمرات وقاذفت صواريخ وعربات مدرعة، وساندت الجيش الإسرائيلي الذي اقتنعنا بأنه أكبر قوة عسكرية في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط ( هي الوطن العربي، وليست الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تسمية سخيفة تستهدف تبديل الثوابت. ثمة بلدان مثل إيران وتركيا، تشكل مجاورة لأقطار الوطن العربي، ولا تدخل في صميم نسيجها القومي) ساندت الجيش الإسرائيلي بكتائب من النخبة لمساندته في الحرب ضد تنظيم مجال تحركه قطاع لا تعدو مساحته بضعة كيلو مترات، يشكل جزءًا من دولة محتلة، اقتطع الاحتلال أكثر من 80 % من مساحتها.
إذا كان اللوبي الصهيوني قد أفلح في زرع الوهم داخل العقلية السياسية الأمريكية، بأنه العنصر الأشد تأثيراً في الصندوق الانتخابي، فإني أعاود تذكيرك بفوز أيزنهاور بالرئاسة، في تجاوز لضغط اللوبي الصهيوني، كما أذكرك بأخطر الأسئلة التي واجهت الساسة الأمريكان أيام توالي هزائم القوات الإسرائيلية في حرب 1973: إذا انهار البناء الذي شاركنا في تشييده، ودعمه، فما معنى – في ضوء المصلحة الوطنية – مواصلة الحرب دفاعًا عن حليف منهزم؟
بعد الاتهامات القاسية التي واجهها كل من بايدن وترامب، والتي أفضت إلى وقوفهما متهمين أمام لجان الكونجرس، أو محاكم الولايات، فإن الأمل قائم في مرشح لم تتلوث نفسه، ولا ثيابه، ليس في هذه الاىنتخابات، ولا في انتخابات تالية، بل في انتخابات قادمة، يصنعها وعي الناخب الأمريكي، انطلاقًا من رؤيته الوطنية لمرشحي الرئاسة، بما يبدًل الصورة الحالية للولايات المتحدة، كقائدة، وحامية، لقوى الاستعمار العالمي.
كل هذه التطورات – كما أتصور – تشكل انفراجة في الباب الذي نستطيع فتحه عن آخره من خلال وجود فاعل في مراكز صنع القرار الأمريكي.
لن أتحدث عن الألف ميل التى تبدأ بخطوة واحدة، ولا عن التعريف الذي يرى في السياسة فن الممكن، إنما أتحدث عن فيلم أمريكي شهدته مذ سنوات بعيدة، محوره المرشحان التقليدبان للجمهوريين والديمقراطيين، لجأ كل منهما إلى أحط الوسائل استهدافًا لتشويه الآخر، وأتاح التشوه الذي ألحقه كل منهما بخصمه، أن يصعد مرشح ثالث، لم يتسخ ضميره ولا ممارساته بالكيفية التي بلغها المرشحان الآخران.
السياسة هي فن الممكن، وما نتحدث عنه ليس مستحيلًا. فقط لو أن العرب فطنوا إلى الطريق الصحيحة، وما فيها من مؤشرات نحو الغاية المطلوبة.