كل زمن مضى هو زمن جميل، نتذكره بالحنين والإعجاب. نحنّ إلى بيت الطفولة، وإلى الشارع الخلفى الذى كنا نمارس فيه ألعابنا، وارتجافة الحب الأول، والأغنية التى ربطت بين الشاب والفتاة التى أحبها. حتى المدرسة التى كنا نتطلع لانتهاء وقتها، نضعها فى إطار وردى جميل.. لكن الأيام تسقط ذلك، ولا يبقى إلا الذكريات الجميلة.
نحن نعيش الحاضر، لكن الماضى فى داخلنا، لا نستطيع أن ننتزعه من نفوسنا. إنه يطالعنا بصور وذكريات، أو حتى بمجرد ومضات سريعة، لكننا نتصل به على نحو ما، ولا نتصل بالفراغ.
نصبح – في اللحظة التالية، في الغد، في الأيام والأسابيع والسنين القادمة –ماضيًا، يسبق سيرتنا فعل” كان”. إذا حاولنا أن نجد الزمن الجميل فيما سبق من أزمنة، فقد لا نجد ما يستحق هذا الوصف. أشير إلى قول الأب في قصة دوريس ليسنج” مذكرات جارة طيبة”: لا أدري لم يقول الناس: أيام زمان الحلوة، لقد كانت أيامًا مقيتة”!
وإذا كان رأي يحيى حقي أن الماضي مهما كان مرًا فهو حلو، فإن الراوي في رواية ميخائيل ليرمونتوف “بطل من هذا الزمان” يذهب إلى أن الأفراح تنسى، أما الأتراح فلا تنسى مدى الحياة.
مع ذلك، فلعلي أميل إلى رأي صاحب القنديل: الغلالات تنسدل على الماضي، لا ينفذ من انفراجاتها إلًا الأوقات الطيبة.
الزمن القديم هو الزمن الجميل، نغفل ما عاناه أبناء ذلك الزمن، آباؤنا وأجدادنا، فى زمنهم الذى وسمناه بالجمال، نكتفى بالمجرد والمطلق، ونهمل الموضوعية فى محاولة التعرف إلى حقائق الأشياء.
أذكر فيلمًا قام ببطولته الممثل الأمريكى كيرك دوجلاس. القصة محملة بالحنين: هل هو الحنين إلى الماضى؟ أو إلى الوطن، إلى بيت الطفولة والنشأة؟ أو لعله الحنين إلى الومضات التى تصنع ماضيًا جميلًا نحن إليه؟
تضافر إحساس العجوز بدنو النهاية، والحنين إلى البيت القديم، إلى السرير الذى كان ينام عليه فى تلك الفترة. لثقته فى أن أبناءه سيرفضون تلبية رغبته، فقد اختار أصغرهم سنًا، ربما لأنه كان يعانى ما يشبه البله، فهو لا يسأل، ولا يناقش، ولا يبدى الرأى المعارض. طالبه العجوز أن يعينه فى الانتقال إلى البيت القديم، يرقده على السرير الذى أمضى عليه طفولته وشبابه. حمل الابن أباه ومضى فى اتجاه البيت، وسط مطاردات إخوته، حتى أدخله البيت، وأرقده على السرير الذى تمنى الموت عليه!
آراء كثيرة تذهب إلى أن المدينة الفاضلة، أو السعيدة، ليست فى المستقبل، لكنها قامت فى الماضى البعيد. حتى الصوفية تسير وفق مبدأ ” القديم على قدمه”.
طبيعى أن ينظر المتقدمون في السن إلى الماضى، يستمدون منه ما يمكن تسميته بالدروس المستفادة.. لكن على الأجيال التالية كذلك أن تنظر إلى الماضي، تحاول وصله بالحاضر، وتستشرف آفاق المستقبل، هي حلقات في سلسلة. أذكر قول زكريا إبراهيم: ” لابد لنا دائمًا من أن نتذكر أن الحاضر هو الذي يفسر أو يؤول الماضي للمستقبل، وأن من لا يحيا إلا من أجل الماضي لا يستحق أن يكون له مستقبل “.
هل الماضي – كما يرى البعض – هو تجاربنا التي تمنحنا خبراتها، مقابل كل ساعة نستهلكها من أعمارنا؟
خطأ – في رأيي – أن نقصر نظرتنا إلى الماضى بالإعجاب أو الرفض، أو نحاول تفكيك الماضى باعتباره إرثًا يفتقد القيمة. إن الصلة تتحقق بين الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، السعي في اتجاهه. من السهل أن أحقق المستقبل، ومن الصعب أن أستعيد الماضي. قد لا يعود الماضي على النحو الذي نتمناه، أما المستقبل فأي إنجاز فيه إضافة مطلوبة. وكما تقول سيمون دي بوفوار فمن الصعب جدًا أن يراجع المرء ماضيه دون أن يعيش قليلًا.
على سبيل المثال، فإن علاقة العرب بماضيهم تفرض نفسها في تحركهم الآنى، وتطلعهم إلى المستقبل. المثل نجده في الدعوات المتضادة إلى الفرعونية والإسلامية والعروبة والاتجاه جنوبًا وثقافة المتوسط، حتى بعد أن استقرت الهوية ـ أو هذا ما تصورناه ـ فإن ملامح الماضي ظلت واضحة، بصورها المتعددة، في التيارات الفكرية الحديثة [ ظاهرة لافتة: العادة أن يعيد الناخبون في دول أوروبا الشرقية اختيار من أسقطوا اختيارهم قبلًا، فاليسار الذي فقد تأثيره عقب اندثار الاتحاد السوفييتى، ما لبث أن استرد ثقة الناخبين بعد ممارسات اليمين التي اتسمت بالسلبية ].
لو أننا رجعنا إلى أقوال المفكرين والساسة وعلماء التاريخ والاجتماع، فسيطالعنا ما يؤكد مقومات الشخصية المصرية. يذهب ” إمري” إلى أن عظمة مصر تتجلى في تاريخ حضارتها ومدنيتها التي استمرت خمسة آلاف سنة، عاشتها أمة عظيمة موحدة، ثابتة، منظمة، كانت دائمًا تخطو نحو الارتقاء والتقدم. استمدت مصر شخصيتها الحقة – والقول لأحمد فخري – من شخصية أرضها ونيلها، وزالت الدول، وزال الغزاة، وبقيت مصر، وبقي الشعب المخلص لتقاليده منذ آلاف السنين، وستظل للمصريين تقاليدهم المجيدة طالما بقي النيل جاريًا بين شاطئيه، يفيض بالخير والبركات، وهو باق بإذن الله إلى أبد الآبدين. لا يخلو من دلالة قول المؤرخ الفرنسي موريه: إن ماضى المصريين هو أطول الفترات التي يسجلها تاريخ البشرية، وهو مايراه أستاذنا طه حسين من أن شخصية مصر شخصية أبدية أزلية، انتصرت على الزمان .. فهي أقوى من أن تفنى فى أي شخصية أخرى. الرأي نفسه نجده عند كونريل في القول إن للمصريين شخصيتهم من أقدم الأزمنة، هم لا يحتاجون أن يفنوا في غيرهم، لكن من الجائز أن يفنى غيرهم فيهم.. مصر – حسب ما يراه المؤرخ إدوار دريو – صنعتها رواسب حضارات، لا يعادلها في الثراء إلاّ طمي نهرها الإلهي، وامتزجت في تربتها ملايين الأجساد. إنها – في قول ابن ظهيرة – بلد العلم والحكمة من قديم الدهر، ومنها خرج العلماء الذين عمّروا الدنيا بكلامهم وتدبيرهم وحكمتهم .. وليس يرى في الدنيا بلد أهله مثل رتبة أهل مصر في أبنيتها ونهرها وإتقان أمرها. وفي قول لسونيرون، فإن الإنسان المصرى لم يعرف العقم فى حياته. عرف العطاء منذ أن رفع شعلة الحضارة، فالمصرى صنع الحضارة لا في مصر وحدها ، بل في العالم أجمع . إن أية حضارة فتحت نافذتها على وادى النيل لم يفد منها بقدر ما أضاف إليها. كان المصرى أول من صنع الحضارة، ومن يصنع الحضارة لا يكف عن العطاء. ويخاطب كورت لانجة أهل مصر بالقول: إذا لم تنفعلوا بتاريخكم الأول مثلما ننفعل نحن الغرباء، فلا تلوموا إلاّ أنفسكم.
استدعاء الماضى لا يصنع مستقبلًا، أختلف مع هذه العبارة، لأن الحاضر موصول بالماضي، والمستقبل موصول بالحاضر والماضي معًا. من الصعب اجتثاث فترة تاريخية ما عن بقية الفترات. نستطيع أن نناقش فترة محددة، لكننا لا نستطيع أن تعزلها عن مسار التاريخ.
أذكر قول الشيخ حسن وردى فى روايتى” ورثة عائلة المطعنى”: ” النظرة إلى الماضى باعتباره زمنًا جميلًا ليست حقيقية فى كل الأحيان. لم يكن الماضى طيبًا كله، ولم يكن سيئًا كذلك كله، هو مثل الزمن الحالى، والأزمنة السابقة، له ملامحه الثابتة، والمتغيرة”.
يجب أن نتخفف – لا أقول نتخلص – من النظرة الماضوية إلى أحوال زماننا، وقائع فات أوانها، ولم يعد لها تأثير – أو هذا هو المفروض – على الحاضر من حياتنا، ولا المستقبل الذي نستشرفه. نحن نعيد ونزيد فى حديث الإفك، الشيعة يحتفلون بيوم مقتل عمر بن الخطاب على يد المجوس، قول سعد زغلول ما فيش فايدة.. هل كان تنبؤًا بقرب نهاية الحياة، أو أنه كان ينعى أحوال البلد؟. نأخذ المثل من وقائع التاريخ، لكننا لا نسقطها على حياتنا الآنية. لكل زمان أحواله وظروفه وتوقعاته وتطلعاته ومآزقه ومنجزاته قد يفيد مما سبق، شريطة ألا يخضع للماضي، وإلا أصابه الجمود.
هذا هو الخطر الذى يواجهه وطننا العربي.
لست مع الرأي بأن مشكلة الماضي تكاد تستغرق إحساسنا بالحاضر، وتغلق – في الوقت نفسه – أبواب المستقبل. الماضى – في النظرة المصرية الصحيحة – هو امتداد للحاضر، والحاضر امتداد للمستقبل. الماضى هو المثل – بإيجابياته وسلبياته – بحيث نفيد منه في إعادة صياغة الحاضر، والتهيؤ لصياغة المستقبل.